تخطي التنقل

لقد تم فتح باب الترشح في مسابقة كتارا للرواية والفن التشكيلي.

“خاتون بغداد” تكسب

“خاتون بغداد” تكسب

كما أربع رواياتٍ أخرى زميلاتٍ لها، راقت رواية العراقي، شاكر نوري، “خاتون بغداد” (دار سطور، بغداد، 2017) للمحكّمين في المنافسة على جائزة كتارا للرواية العربية، فئة الأعمال المنشورة، وقد تم تكريم الفائزين والاحتفال بهم مساء أمس في الدوحة. والظاهر أن أكثر من سببٍ جعل المحكّمين يستطيبون رواية شاكر التاسعة، لعل منها المساحة الرحبة للتخييل في نصٍّ يقوم على وقائع تاريخية، بل على سيرة شخصيةٍ معروفةٍ، حضرت في مقطع مفصلي في تاريخ العراق الحديث. وبذلك، لسنا أمام روايةٍ معنيةٍ بالتأريخ لهذه الشخصية المركزية، وإنما بالكتابة إبداعيا عنها وحواليها، في سردٍ يناور في لعبته مع القارئ، عندما تتنوّع انتقالاته بين ضمائر المتحدثين بأنفسهم، وضمير الأنا الذي يختص بالبطلة الرئيسة، المس بيل، أو غيرترود بيل، السكرتيرة الشرفية للمندوب السامي البريطاني في العراق، بيرسي كوكس، ومستشارته. كما أن مناورة السرد ولعبته تُوازي، في بعض مطارح العمل، بين زمن ذلك الاحتلال البريطاني، إبّان كانت خاتون بغداد، كما هو وصف المس بيل، من 1917 إلى وفاتها في 1926، وزمن الاحتلال الأميركي في العام 2003، فإلى حضور شخصياتٍ من ذلك الزمن، ثمّة فيلم سينمائي قيد الإنجاز عن تلك المرأة البريطانية التي كان من بين أوصافها أنها جميلةٌ وخارقة الذكاء، وكان لها دور مشهور في تنصيب فيصل الأول ملكا على العراق.

لو كانت غيرترود بيل موظفة عابرة في أجهزة المستعمر البريطاني في العراق، لما استنفرت في شاكر نوري رغبةً في تقليب حياتها، وفي الدراما الشائقة والمثيرة في شخصيتها، ولما تنكّب في البحث عن تفاصيل حياتها، بل ووجدانها، وأنوثتها، ولما جهد في مطالعة كتبها ورسائلها التي اجتمع فيها حب الشعر والفنون مع درايةٍ واضحةٍ بالعراق وشعبه، ولا في مطالعة مؤلفاتٍ غير قليلة عنها، اعتبر أحدها المس بيل ملكةً غير متوّجة. طاف شاكر نوري في هذا كله، ليقيم مبناه الخاص في روايته، وأظنّها الحرارةَ الباديةَ في أجواء المس بيل، وفي الإيقاع العام لدواخل شخصيتها المثيرة، كما أشاعها الكاتب في المسار العام لروايته، وفي الإيحاءات والمرسلات الخفية في ظاهر النص وباطنه، هذه الحرارة أظنها التي رآها المحكّمون في جائزة كتارا تستحقّ تكريما وثناءً، ذلك أن الذهاب إلى التاريخ، القريب منه والبعيد، أمرٌ جاذبٌ لكتّاب الرواية العرب، وفيهم من أتقن زيارته التاريخ، ومن أخفق، فذاك قبضت لغتُه على الحرارة اللازمة التي تُنعش التاريخيّ، وتأتي به إلى يقظة القارئ الراهن، فيما لم يفلح غيره، عندما ظن أن معمار السرد الروائي وحده كافٍ لمؤانسة القارئ وإمتاعه في هذا الرهان على التاريخيّ، موضوعا للحكي والقص، وللمكر أيضا إذا آنس الكاتب في مواضع في التاريخ ما يستدعيه للتأشير إلى راهنٍ منظور. وهذا شاكر نوري، يتخيّل غيرترود بيل تكتب إلى صديقةٍ لها إنها تشكّ في التاريخ، لأنه لم يكن سوى مخدع للتزوير والإجرام. وتكتب إنها تخشى أن تصبح بغداد ذات يوم مدينة أشباحٍ تتصارع فيها الطوائف. وتكتب عن الملك فيصل الأول، بعد إشارةٍ إلى المودة بينهما، إنه لا يرى في هذا البلد (العراق) نسيج شعبٍ واحد، بل تكتلاتٍ بشريةٍ خاليةٍ من أية فكرةٍ وطنية.. لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميالون للفوضى، .. .

ثمّة السيرة المعلومة والمتخيّلة، ثمّة العاطفي الخاص والاجتماعي العريض، ثمّة الناس على تعدّد مراتبهم والملوك والقصور والحكّام، ثمّة مونتاج يؤالف بين سرد المتكلم وسرد الآخر، وبين ما هي أشبه بتقطيعاتٍ سينمائيةٍ ومونولوجاتٍ مسرحية.. ثمّة التباساتٌ هنا وهناك بين أكثر من سارد، وبين أكثر من محكيٍّ عنه، قد تربك القارئ المتعجل. ولكن، منذ متى كان التاريخ غير ملتبس؟ ومن الذي في وسعه أن يرى للعراق تاريخا واحدا مجمَعا على سرديةٍ موحدةٍ له؟ يذهب شاكر نوري إلى السنة والشيعة، في زمنٍ مضى، وكأنه ينطق بشأن حاضرٍ ماثلٍ قدّام الجميع. يفعل هذا في ترجيعاتٍ تتسق مع مجرى حكايةٍ ثريةٍ بعوالم وأجواء عتيقة، هناك في العراق قبل مائة عام. وفي خواطر القارئ ثمّة العراق المتعب الراهن، والذي لم تكن المس بيل، وهي واجهةٌ استعماريةٌ بريطانية، تحبّ له أن يكون كما نرى.. على ما أوحى شاكر نوري وأجاد.

المصدر: صحيفة العربي الجديد

التاريخ: 13 أكتوبر 2017