تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح في الدورة العاشرة.

فوزية شويش السالم تكتب: صمت

فوزية شويش السالم تكتب: صمت

عادة عندما أقرأ قصصا قصيرة لكاتب أو كاتبة يشدني فضول قوي لقراءة عمل روائي لهما، فمهما كانت مجموعة القصص القصيرة قوية ومحكمة، إلا أن بنية الرواية مختلفة تماما عنها، وتحتاج إلى نفَس طويل بمعمارها، لذا أجد أن الرواية قادرة بالفعل على كشف الطاقة الكبيرة لكاتبها.

كنت قد قرأت مجموعة قصصية للكاتب محمد صالح البحر، وأعجبتني في حينها وكتبت عنها مقالا، لكنني كنت في شوق لقراءة رواية له حتى أتجسس وأتلصص على قوة موهبته وأعرف حدودها، وكانت هذه الرواية هي «موت وردة»، ولم يخيب محمد صالح البحر ظني بكتابته للرواية، فله روح تمتلك رؤية فلسفية للأحداث انعكست على كتاباته، ومنها رواية “موت وردة” الغنية بالأحداث العميقة، رواية لخلق الإنسان وصراعه مع الخير والشر ونوازعه مع الشيطان الذي يحمل وزر شره على الأرض، الكاتب مغرم بثيمة الشيطان، وهو ما لاحظته في أغلب قصصه القصيرة بشكل لافت، فأعمال شخصياته كلها يعود مردود أسباب قيامها إليه.

رواية وردة تمثل صراع بقاء الإنسان على الأرض، وتواجهه مع الخير والشر الكامن فيه والمحرك له هو الشيطان، وأرض «التبة» المطلة على النهر والقرية تنام تحتها هي سبب قيام الصراع لأجيال متعاقبة من أولاد الشيخ المالك لها، بدءا من ابنه آدم الأول، ثم آدم الثاني وآدم الثالث، أي الجد والأب والحفيد، وصراعهم مع الشيطان الراغب بامتلاكها كي يشيد عليها قصره ونشر تعاليم شره بين أهالي القرية.

تبدأ الحكاية بغرق الطفلة «وردة» ابنة آدم الثالث بفعل أعمال الشيطان، ومحاولاته الدائمة للقضاء على سلالة الشيخ، حتى يتمكن من امتلاك الأرض التي لم يستطع امتلاكها، برغم كل محاولاته عبر الأجيال السابقة، ودائما يقع الشيطان في خطأ ما لينجو فيه آدم آخر من السلالة.

وبموتها يسرد آدم الثالث قصة حياته من طفولته إلى لحظة موت طفلته وقيامه بحرق منزله، ويرحل إلى عشة فوق سن الجبل مع زوجته «حياة» التي تهرب بعد ذلك بمساعدة الشيطان لها، الذي يقوم بغلق باب العشة لكي يموت آخر آدم فيها، ويخلو له الجو فيتملك أرض التبة.

العمل طبعا لا يبدو بمثل هذا الشرح السهل المبسط، إذ تتوالى فيه الحكايات وترمي نفسها من واحد لآخر لتتفتح مثل بتلات الوردة إن شئت، أو تتسلخ عن بعضها البعض مثل طبقات البصل، فهو عمل معقد قائم على تعدد وجهات نظر الرواة الخمسة، وهم آدم وزوجته حياة وصديقه فؤاد وأم حياة وبطل الحكاية الشيطان، ولكل منهم رؤية مختلفة في الحكاية، بحيث تتعدد زوايا النظر وتختلف من جهة كل واحد منهم، فهم مرايا يتواجهون بها، ومن انعكاساتها تتضح الحكاية وتتبين أهواء ونوايا الخير والشر والصراع الإنساني فيها، وتكمل أبعاد رسم شخصيات الرواية بتعدد دلالاتها وفك شيفرات رموزها.

رسمت الرواية أيضا صورا لحياة الصيادين وجريهم وراء لقمة العيش، وحياتهم مع النهر وأساطيره التي تنعكس قصصها في مخيلتهم، بحيث تصبح واقعيتها سحرية، وتصبح حقيقتها معلقة خيوطها بين الحقيقة والخيال، وفي النهاية يقوم الشيطان بفك طلاسم سحريتها وكشف غموض وقائعها.

الرواية مكتوبة بلغة شعرية عكست الصراع النفسي داخل كل شخصية من شخصياتها، وإن كان صوت الشخصيات كلها هو صوت الراوي العليم الذي يروي من خلال ثقافته العالية وعلمه، وهذا الأمر لا أعرف مدى ملاءمته لطبيعة الشخصيات، فمثلا حياة، البسيطة الجاهلة تتكلم بكل هذا الوعي والتعبير بلغة ثقافية، كنت أتمنى أن تكون لها لغة مناسبة ومفصلة على قدها، وهو ما أفعله في كتاباتي، لكنه ليس شرطا لكتابة الرواية.

وهذا مقتطف منها: «واختفت بعدها من فوقي، تبخرت مثل سحابة دخان تذوب في الهواء حتى لم يعد له أثر قط، ويا ليتها اختفت وحدها، لقد اختفت معها الأشجار والحديقة والبيت كله، حتى أنني وجدت نفسي جاثيا على ركبتي ويدي وحيدا وسط الصحراء وتحت سن الجبل، لا أدري سببا لبكائي، ولا أعرف كيف أحتمل حدة الشمس إلى هذه الدرجة، وشعرت بجسدي كله منهكا ومتعبا كأنما كنت جاثيا منذ ردح من الزمن لا أقدر على تحديده ولو على وجه التقريب، وبالكاد استطعت القيام وجرجرت قدميّ نحو القرية جرا، أجاهد كي أتماسك في مشيتي، وأجاهد كي لا يطير عقلي».

مقال رأي للكاتبة فوزية شويش السالم نقلا عن صحيفة الجريدة الكويتية


أضف تعليق