تخطي التنقل

لقد تم فتح باب الترشح في مسابقة كتارا للرواية والفن التشكيلي.

طالب الرفاعي يكتب: ثقافة السلام

طالب الرفاعي يكتب: ثقافة السلام

في مقهى صغير على ضفة بحيرة جنيف، وقبل أن أستخرج رواية جئت بها معي، طلبتُ قهوتي، وجلست أتأمل روعة الطبيعة؛ الموج الهادئ والجبال على الضفة الأخرى، وانعكاس أشعة الشمس المتلألئة على مرآة سطح البحيرة، واللون الأخضر الذي يصبغ جميع ما حولي. لحظة بدأت القراءة، انتبهت لوجود رجل غطى شيء من الشعر الأبيض رأسه، بدت عليه ملامح عربية. وما لبثت أن لاحظت نظراته الناطقة. ليفاجئني بالنهوض والقدوم نحوي:

«مرحبا»… حياني بنبرة ودودة، وبادرني:

«تقرأ كتاباً بالعربية، فأنت عربي».

«صحيح»، قلت له، ونهضت لأحييه.

«لا أريد أن أقاطعك، فقط وددت تحيتك».

«شكراً».

«أنا أصلاً من الجزائر وأعيش هنا منذ ما يزيد على الأربعين سنة».

ولأني كنت أنظر إليه، أكمل قائلاً:

«آخر مرة زرت فيها الجزائر كانت قبل عقدين من الزمن. قابلت أمي، وشعرت بغربة عن كل شيء، وحين كنت أودع بلدي في المطار، تعرضت لإهانة كبيرة، قررت على أثرها ألا أعود».

اكتست نبرته بشيء من حزن ظاهر، وأنهى حديثه: «لن أعطلك.. استوقفني الخط العربي على غلاف كتابك، فوددت تحيتك… مع السلامة».

بقيت واقفاً في مكاني، وبهدوء انسحب يجر خطوه.

عاودت الجلوس، لكني كنت بمزاج مختلف. كلمات الرجل مسّت وتر حزن في قلبي. فلقد أمضيت أياماً، وكنت في كل يوم أقود سيارتي لأخرج من الأراضي السويسرية، إلى الأراضي الفرنسية، وبالعكس، من دون أن يكون هناك أي وجود لأي مركز شرطة، أو رجل شرطة، ومن دون أن يستوقفني وأفراد أسرتي أي شخص بزي رسمي ليفتش أوراقنا الثبوتية، ويختم جوازاتنا، وقبل هذا وذاك، لم نكن نحسب حساباً لسؤال يدهم أحدنا، أو إهانة تلطخ وجوهنا!

دار ببالي؛ كيف وصلت هذه البلدان إلى هذه الدرجة من المسالمة فيما بينها؟ ولماذا عاد الأوروبي، بل وحتى السائح ينتقل في طول وعرض أوروبا من دون أن يستوقفه أحد، ويطلب منه أوراقاً ثبوتية؟ واستذكرت أنهار الدم التي خاضت فيها أوروبا لقرون قبل أن تؤمن بأن لا حياة للإنسان إلا بالسلام والحوار والاحترام المتبادل، وأن الحروب لا تجر إلا الحروب، وأن الحروب والتجهيزات أعجز من أن تؤمّن حدوداً إلى ما شاء الله، وهي أعجز بكثير من أن تبني ثقافة الاحترام.

وصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه، بعد معاناة كبيرة ومؤلمة، دفعتها إلى السير عبر ممر الوحدة المالية، متسلحة بثقافة تتخذ من السلام والمسالمة مبدأ أوّل للعيش، وترى في احترام خصوصية الآخر سبيلاً لاحترام خصوصيتها.

السلام ثقافة عيش، تبدأ في حضن الأسرة، وتخرج مع الطفل/ الإنسان إلى الشارع والمدرسة والوزارة والمؤسسة. تصاحبه في جميع سلوكيات يومه… السلام ثقافة فكر، ثقافة قناعة، ثقافة عيش، وإلى أن ننتبه نحن أبناء العرب والإسلام إلى هذه القناعة، التي تلازم العيش، سنبقى في احتراب واقتتال دائمين.

الحرب ممارسة، ولا شيء يستطيع إيقاف هذه الممارسة المتوحشة إلا قناعة ثقافة السلام. الحرب في العراق، وسورية، واليمن، وليبيا، وسيناء مصر، وغير بلد عربي، هذه الحروب الدامية والمؤلمة، لا يمكن لها أن تقف وتنتهي قبل أن يؤمن أطراف الاقتتال بأن السلام وحده هو ثقافة الحياة.

الانتصار، أي انتصار، لن يصمد إن لم يكن أساسه السلام، وأي ظلم أو عدوان لا يمكن له أن يستمر إن هو جافى السلام والعدالة واحترام إرادة الآخر.

حروبنا العربية المؤلمة، صارت حروباً بين الأخ وأخيه، وكم يبدو الأمر محيراً في قتل الأخ لأخيه! أي سر لعين جعل الأخ يشهر سلاحه ليطلق النار على أخيه؟ وحدها ثقافة التوحش والعدوان تمكنت من قلوبنا، وصارت تقود خطواتنا إلى الجحيم.. ليس لنا من مخرج سوى الاقتناع بثقافة السلام، وإلى أن تأتي تلك اللحظة سنبقى نتقاتل بجنون.

مقال رأي للكاتب والروائي الكويتي طالب الرفاعي نقلا عن صحيفة الجريدة الكويتية

 


أضف تعليق