تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح في الدورة العاشرة.

الهوية الشخصية في رواية «سعيدة هانم» لـ«ميسلون هاديّ»

الهوية الشخصية في رواية «سعيدة هانم» لـ«ميسلون هاديّ»

تلعب ميسلون هاديّ في روايتها «سعيدة هانم ويوم غد من السنة الماضية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015)، بعنصر الشخصية الروائيّة. ولعلها تفعل في أعمالها كلها، في ميزة ليست لغيرها في الرواية العراقيّة، إذ تكثر في أعمالها الشخصيات، وتتنوع، وتتميز بالاسم والفعل والحكي، حتى تكاد تكون الرواية، كلها، نسيجاً من المرويات المنسوبة إلى الشخصيات، التي تروي فيها الشخصية حكاياتها، وحكايات سمعتها من غيرها.

وتسهم هذه الطريقة في تقليص حضور الزمن الحقيقي السيئ، عادة، في الخطاب السرديّ. إذ يستبدل السرد به زمناً آخرَ مُختلَقاً من نسج خيال الشخصية المتكلمة، ومن أوهامها، أو زمناً سابقاً، كما في رواية «سعيدة هانم». والشخصيتان، فيها، سعيدة هانم ومليكة جان (دعونا من إغراء المقطع الثاني في الاسم: هانم تحيل إلى ترتيب طبقيّ قديم، وجان إلى الاستتار) تتمسكان بزمنها القديم، أو التقليديّ، وترفضان الاندماج في الزمن الجديد، زمن ما بعد 2003، إذ الأختان تصران على التمسك بعمليهما: سعيدة هانم مدرّسة للّغة العربية، ومليكة جان رسامة، وعلى سلوكيهما؛ فسعيدة موسوسة في متابعة أمور البيت من تنظيف وطبخ، ومليكة متناقضة في ملبسها؛ فهي في البيت ترتدي الثياب الجديدة وفي الخارج ترتدي الثياب المهلهلة. والاثنتان مختلفتان إلى درجة تظهر تفرد الواحدة منهما عن الأخرى، وتميّزها، وتنفي أيّ تطابق محتمل بينهما. وكلما اتسع التعارض، اتسعت الحكايات، وتنوعت المواقف، وتعددت وجهات النظر، وتأجل إعلان عجز الشخصية عن مواجهة الواقع.

يكتشف القارئ عندما يصل إلى الجملة الأخيرة من الرواية، وهي: «يوم غد لم يأتِ بعد منذ السنة الماضية»، أن الزمن في الرواية، بالمفهوم الرياضيّ، لم يتحرك، وأن الشخصية الروائية (سعيدة هانم) كانت تتوهم، وتختلق الشخصيات، والحوادث. والغرض من ذلك تخفيف عبء الراهن، الذي تعيشه، وضغطه النفسيّ عليها؛ فهي موزعة بين رغبتها في أن تزاول عملها الذي تحبه، أي التعليم، والواقع السيئ بقيمه الجديدة المنحطة. وهي مقسمة بين رغبتها في البقاء في بلدها تعلم التلاميذ الشيء الذي تحبه، وضغوط أخيها سليمان بك، المهاجر إلى كندا، لتبيع بيت العائلة؛ لحاجته إلى المال، ولتختار أحد المتقدمين إلى خطبتها من العراقيين الكنديين، فتهاجر إلى كندا.

يتوقف التعارض بين الزمنين النفسيّ والحقيقيّ، الذي كانت تديره الرواية على امتداد صفحاته التي تقرب من المئتين، بتفوق الواقع المُختَل، على الآمال. إذ تجد سعيدة نفسها مضطرة لقبول ضغط مديرة المدرسة عليها، لمنح إحدى الطالبات، من بنات المتنفذين الجدد، درجة الإعفاء التي لا تستحقها، فتشعر أنها عاجزة أمام قسوة الواقع، وأن عليها أن تفكر في خيار الهجرة.

سيتضح لقارئ رواية «سعيدة هانم» أن الزمن الروائيّ الحقيقيّ لم يكن موجوداً. وأن الرواية،كلها، مُسيّرة بالزمن النفسيّ. وأن الأحداث، والشخصيات حيلة لاصطناع زمن حقيقيّ لا بدّ منه للسرد وللقارئ، فشخصية مليكة، فضلاً عن شخصيات العمة حورية وبناتها:م فيدة السعيدة، ودلال الطويلة، وبربارة السحارة، وسميرة الحقيرة، لا وجود لها. وإنما هي من ابتكار سعيدة هانم؛ لتعزز بها هويتها الشخصية، فميزات سعيدة تظهرها عيوب مليكة، ولتصطنع حوادث يومية تعود إلى زمن مضى، وتوجِد بها زمناً روائياً موازياً للزمن الخارجيّ المتوحش؛ فتتمكن من مواجهة التغيّرات في القيم، وفي السلوك، ولتواجه بآمالها ورغباتها البسيطة، قسوة الواقع، وتخفف عجزها إزاءه، ولتصنع رواياتِها، وعبرها، رواية ميسلون هاديّ، المتفردة في اقتراح صيغ متنوعة لمواجهة مشكلات المجتمع العراقيّ في العقدين الأخيرين، ومأزق شخصياته الأخلاقيّ والواقعيّ؛ فحكاياتنا الشخصية -وعبرها هويتنا الشخصية- ضرورية لإثبات تفردنا، ولمواجهة خراب العالم، ولإحداث تغيير يبدأ فرديّاً، ويتسع ليصير جماعياً، ويبدأ وهماً، ويصير، ذات يوم، حقيقة جديرة بأن تحل محل الأيديولوجيات التي تسيّر حياتنا اليوم، وتمد خرابها بأسبابه.

مقال رأي للكاتب العراقي عقيل العوادي نقلا عن صحيفة الرأي الأردنية


أضف تعليق