تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح في الدورة العاشرة.

أمير تاج السر يكتب: ميلاد الطيب

أمير تاج السر يكتب: ميلاد الطيب

في الأسبوع الماضي احتفل موقع غوغل العملاق كعادته في الاحتفاء بالخالدين عامة، وفي أي مجال من مجالات الحياة المختلفة، بالذكرى الثامنة والثمانين لميلاد الأديب السوداني العربي الكبير الطيب صالح، والذي كان رحل في شباط (فبراير) عام 2009، تاركا من بعده أعمالا قليلة خالدة، واسما براقا ما زال مستمرا في ضخ البريق برغم مرور تلك السنوات على الرحيل.

تقليد غوغل التذكيري، ممتاز فعلا، ويعتبر من الأشياء الجيدة في تقدير الاجتهاد والمجتهدين والمساواة بين الإبداع كله، إن كان علميا أو أدبيا أو اجتماعيا أو رياضيا، أو حتى سياسيا لأن كثيرا من الساسة أثروا حياة مجتمعاتهم بشكل مبدع، وساهموا في رقي تلك المجتمعات، واستحقوا التكريم كله، بمعنى أن ليس كل من تعاطى السياسة وعمل بها، يستحق أن ينفى بعيدا في قاع التاريخ، هناك الزعماء المحترمون، والأبطال الفاتحون، هكذا.

لقد ولد الطيب صالح، أو الطيب محمد صالح، كما هو معروف، في بلدة كرمكول الصغيرة، ريف الدبة، شمال السودان، عام 1929، وتعلم في مدينة بورتسودان، ومدرسة وادي سيدنا الثانوية، وجامعة الخرطوم، وأخيرا لندن التي ذهب إليها في خمسينيات القرن الماضي، وكان من أوائل الذين عملوا في الحقل الإعلامي من أبناء السودان، في محطة «بي بي سي» واشتهروا بالأصوات القوية، الملهمة. وكما هو معروف، فقد عاش الطيب في لندن معظم سنوات حياته، واتخذها وطنا، تزوج وأنجب هناك، وعمل في اليونيسكو لفترة أيضا، كما عمل في دولة قطر مديرا لوزارة الإعلام، في فترة من الفترات، وكان يعتز بتلك الفترة جدا، يقول بأنها أتاحت له الهدوء، وإمكانية السفر والتعرف إلى الشعوب وأكسبته صداقات جميلة، مع زملاء كثيرين عمل معهم، أو عملوا معه في الحقل الإعلامي، في بلد رائع كريم يسع الجميع.

أعتقد جازما، أن مشروع الطيب الكتابي، كان جزءا من مشروعه الإنساني ككل، فالرجل لم يكن كاتبا مبدعا فقط، وإنما إنسانا عظيما وراقيا في تعاطيه مع الناس، ولطالما كان لامعا فعلا في كثير من المواقف الإنسانية العامة، التي شهدتها معه. كان واسع الصدر، وحليما في الاستماع والاحتفاء بأشياء مزعجة، ترافق لمعان اللامعين عادة، ويصعب الاحتفاء بها، مثل قصائد ساذجة، يلقيها متشنج في حضرته، أو قصة يصر أحدهم أن يسمعها له. كان باختصار شديد، من الظلال التي يمكن اللجوء إليها حين يشتد الهجير، هجير الدنيا الذي يمكن أن يطال كل شخص، وبما كان يملكه من ذكاء ورقة، واحترام للآخر، لم يكن يستعصي عليه أبدا أن يمنح الظل لمن جاء ينشده.

لقد كتب الطيب كل أعماله الروائية المعروفة، تقريبا في شبابه، كتب «عرس الزين» في الخمسينيات من القرن الماضي وكتب «موسم الهجرة إلى الشمال» ربما في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات، وبعدها بقية الأعمال. وكما أذكر، فقد نشرت آخر رواياته «مريود»، في أواخر السبعينيات، أي قبل بلوغه الخمسين، وإن كانت مقالاته التي كان يكتبها في مجلة «المجلة» المعروفة، بطريقته الأدبية الممتعة، عدّ بعضها شبه روايات، أو روايات، خاصة ما كان يكتبه عن صديقه منسي، بطريقة تسلسلية، صنعت من الكتابة سيرة موازية لحياة رجل كان غريبا وموحيا ومنح الطيب تلك الرواية السيرية، التي كان يكتبها من دون قصد وأصبحت رواية رائعة وعظيمة، حين تم نشرها في كتاب، عن دار رياض الريس في بيروت. وهناك كتب أخرى في سلسلة المقالات الأدبية، يحمل بعضها سمة الإبداع السردي، ويمكن أن تصبح خامات جيدة لروايات، لكن الطيب لم يكتبها.

لقد تحدث الكاتب التركي المعروف أورهان باموق مرة عما سماه «خلود الأعمال الأدبية» وذكر أن الأعمال الخالدة التي لن تختفي عنها الأضواء أبدا، وقد تتذوقها أجيال عديدة، متتابعة، لا تُكتب كثيرا في العادة، وإنه هو نفسه لم يكتب نصه الخالد بعد، لكنه يأمل أن يفعل.

هذا صحيح إلى حد ما، بالرغم من أنني أعتقد أن هناك أعمالا كثيرة خالدة، كتبت بالفعل، ونشرت، منها أعمال لباموق نفسه، وأعمال لغارسيا ماركيز ويوسا وجوزيف كونراد وتشينوا أشيبي وعبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ وصبري موسى، وغيرهم. ولو آمنا بمقولة باموق تماما، تبدو لنا رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» هي النص الخالد الذي كتبه الطيب. النص الذي سيتذوقه جيل الطيب من القراء وجيل ما بعده، وربما أجيال كثيرة تلت، إلى الآن. والذي يتابع مواقع القراءة يجد شبابا في عشرينات العمر، يضعون «موسم الهجرة إلى الشمال» و»الأشياء تتداعى» لتشينوا أشيبي، و»مئة عام من العزلة» لماركيز، من ضمن نشاطهم القرائي، ويعلقون عليها بإيجابية كبيرة. وذلك بالرغم من أن تلك الأحداث التي تحويها هذه النصوص، تعد الآن كلاسيكية وبعيدة تماما عن أذهان أي قارئ من الجيل الحديث.

إنها بذرة الصفاء، أو بذرة الإبداع النقي، التي ولدت بولادة «موسم الهجرة إلى الشمال» وباقي الأعمال التي ذكرتها. هناك كثيرون طبعا قد يختلفون معي، لكن تظل الأغلبية مؤمنة بأن النص الجيد يبقى جيدا، على الدوام، حتى لو لم يعجب البعض، وقد اعتدت في ما أكتبه هنا أن أمر على أعمال أعتبرها مهمة، من وجهة نظري كقارئ، وأنوه بأهميتها ويأتي من يكتب لي بأن لا أهمية لما ذكرته، لكن ذلك لن يكون مشكلة أبدا. هو اختلاف غير ضار، ولا أعترض عليه، وفقط أحافظ على نظرتي التي أنظر بها للأشياء، حتى لو اعتبرها الآخرون نظرة اختلال لا أكثر.

أهمية «موسم الهجرة إلى الشمال» اذن ليس في كونها رواية أطرت، لفترة ما بعد الاستعمار في البلاد العربية، أو أنها تنوه للعلاقة بين الشرق والغرب، وكل تلك الأشياء الكثيرة التي ذكرت عنها في عشرات الدراسات، وإنما من أنها نص قديم وحداثي في الوقت نفسه ويجلب المتعة للكل في أي وقت يقرأ فيه.

وبالرغم من أنني جلست مع الطيب كثيرا، وتحدثنا كثيرا جدا في كل نواحي الأدب والحياة، إلا أنني لم أسأله أبدا عن ملابسات كتابته لـ«موسم الهجرة إلى الشمال»، وكيف استوحى الأحداث. كنت في الحقيقة مهتما بسؤاله دائما عن أسباب توقفه المبكر عن الكتابة، واستغرابي الشديد من ذلك، فالذي يتوقف في الغالب، من يظن أو يقتنع، بأن لا جدوى من الكتابة، وأن أعماله لا تصل للقراء بعكسه هو، حين وصل للقراء مبكرا وكان بإمكانه أن يستمر.

الطيب لم تكن لديه إجابة مقنعة عن هذا السؤال، هو كتب ذات يوم، ثم توقف ذات يوم بلا أسباب، كان مشغولا بعمله الوظيفي حين كتب، وظل مشغولا به حين توقف، والوظيفة ليست عائقا أمام الكتابة بلا شك، لكن العمل موظفا وكاتبا فيه مشقة، والمبدعون لا يلتفتون كثيرا للمشقة.

ثمانية وثمانون عاما مضت على ميلاد الطيب صالح، وكان ميلادا عظيما تشكلت به تلك الموهبة العظيمة.

مقال رأي للكاتب والروائي السوداني أمير تاج السر نقلا عن صحيفة القدس العربي


أضف تعليق